المقاربة بالكفاءات وأليات تطبيقها في الجزائر (التعليم الثانوي أنموذج)

انشىء من قبل بن نية بشير نذير في العلوم الإجتماعية 3/08/2025
شارك

المقدمة

يُعد إصلاح الأنظمة التربوية ضرورة حتمية لمواكبة التطورات العالمية المتسارعة وتلبية الاحتياجات المتغيرة للمجتمع وسوق العمل. تاريخيًا، واجهت المقاربة الكلاسيكية في الجزائر، التي كانت تركز على تلقين المعارف، صعوبات جمة في تلبية حاجات المتعلمين، مما أدى إلى إهدار الطاقات وبروز مشكلات تربوية معقدة. في هذا السياق، برزت المقاضربة بالكفاءات كبديل بيداغوجي استراتيجي يهدف إلى تصحيح الأخطاء المنهجية لبيداغوجيا الأهداف السابقة، وإعادة الاعتبار لجميع مكونات العملية التعليمية، مع الأخذ بعين الاعتبار معطيات المحيط ووضعيات التعلم وخصوصيات المتعلم.

إن التحول من المقاربة بالأهداف إلى المقاربة بالكفاءات لم يكن مجرد تغيير منهجي، بل كان استجابة استراتيجية لتحديات عالمية ومحلية. المقاربة التقليدية، القائمة على الأهداف، ركزت على المعرفة المجزأة والسلوكات القابلة للملاحظة، مما أدى إلى علاقة ميكانيكية بين المثير والاستجابة، وتشتت في البنية العقلية للتلميذ، وعدم قدرة المكتسبات المدرسية على حل مشكلات الحياة اليومية. هذا القصور خلق فجوة واضحة بين التعلم المدرسي ومتطلبات الحياة الواقعية. وبالتالي، فإن الانتقال إلى المقاربة بالكفاءات كان ضرورة ملحة فرضتها التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العالمية، بهدف إعداد خريجين مجهزين بمهارات ذات صلة بسوق العمل المتغير. هذا التوجه يعكس اعترافًا على مستوى السياسات بأن التعليم التقليدي لم يعد قادرًا على إعداد الأفراد لمواجهة تحديات العصر، مما استلزم إعادة تقييم جوهرية للفلسفة التربوية.

تبنت الجزائر المقاربة بالكفاءات في إطار إصلاح شامل لمنظومتها التربوية منذ العام الدراسي 2003/2004، بهدف تحديث التعليم ومواجهة متطلبات العولمة. بدأ التطبيق العملي لهذه المقاربة بعد شروع اللجنة الوطنية للمناهج والمجموعات المتخصصة للمواد في تصميم المناهج الدراسية وفق هذه المقاربة منذ سنة 1998. كان الهدف من هذا التحول هو الانتقال من التعليم القائم على المحتوى إلى التعليم القائم على العملية، لجعل التعلم أكثر صلة وواقعية للطلاب. ومع ذلك، ورغم الجهود المبذولة، أظهرت الدراسات والتقارير وجود تحديات كبيرة في تطبيق المقاربة بالكفاءات في الميدان، خاصة في التعليم الثانوي.

المقاربة بالكفاءات: المفهوم والأسس النظرية

تعريف المقاربة بالكفاءات وخصائصها

تُعرف المقاربة بالكفاءات بأنها مقاربة تعليمية ترتكز على أهداف معلن عنها في صيغة كفاءات يتم اكتسابها، مع وضع التلميذ في محور العملية التعليمية. هي تعلم اندماجي غير مجزأ، يهدف إلى إعطاء معنى للمعارف المدرسية المكتسبة بشكل بنائي، واكتساب كفاءات مستديمة تمكّن التلميذ من التعامل مع وضعيات حياتية واقعية وتعاون سليم. من منظور أوسع، هي نظام تعليمي يركز على قدرة الطلاب على إظهار اكتسابهم للمعرفة والمواقف والدوافع والتصورات الذاتية والمهارات المتوقعة منهم. كما أنها طريقة تعليم وتدريب تمنح الأفراد مرونة التعلم بوتيرتهم الخاصة، وتستجيب بمرونة أكبر للقدرات التعليمية المختلفة، وتعزز نتائج التعلم والمسار الوظيفي من خلال تخصيص التجارب التعليمية. تُعد هذه المقاربة منهجية منظمة للبرامج التعليمية، ترتكز على الكفاءات التي يُتوقع من المتعلمين اكتسابها، والتي يجب أن تكون قابلة للملاحظة والقياس والتقييم وفق معايير محددة.

تتضمن الكفاءة مجموعة من المعارف والقدرات والمهارات التي تؤهل المتعلم. تُعرف الكفاءة بأنها "نظام من المعارف التصورية والإجرائية منظمة في شكل تصاميم عمليات". تظهر نتائجها في سلوكات المتعلمين القابلة للملاحظة والقياس. تتطلب الكفاءة توظيف المكتسبات في شكل إنجازات وتحويل المعرفة النظرية المجردة إلى سلوك معيش. لتحقيق الكفاءة، يتم تجنيد موارد متنوعة تشمل المعارف والمهارات والمعارف السلوكية. تُعد المقاربة بالكفاءات تقنية بيداغوجية مثلى تتلاءم مع أهداف التربية والتعليم، وتجعل النظام التعليمي يركز على جعل التعليم ذا أثر فعال. الكفاءات المحددة في هذه المقاربة عملية ومرتبطة باحتياجات المتعلم واهتماماته، ويمكن للمتعلم الحكم على مدى صلتها وفائدتها. كما يمكن إتقان الكفاءات الواحدة تلو الأخرى، مما يسمح للمتعلم برؤية ما تعلمه بوضوح. تُعنى المقاربة بالكفاءات بتوظيف الإمكانات الذهنية للمتعلمين ضمن استراتيجية ديداكتيكية متأسسة على الوضعيات المشكل. تهدف إلى تعليم التلاميذ كيفية التفكير والتعلم، وتوجيههم نحو تنمية قدراتهم الذهنية العليا، مثل التحليل والتركيب وحل المشكلات، بدلاً من مجرد التراكم المعرفي. من أنواع الكفاءات، نجد "الكفاءة العرضية" أو المستعرضة، وهي تلك الكفاءة التي تشترك فيها مختلف المواد الدراسية وتسمح للمتعلم بالتعامل مع وضعيات تتطلب كفاءات متنوعة وقابلة للتوظيف في مواد مختلفة. أما "الكفاءة القاعدية"، فهي مجموعة من المهارات المتكاملة التي تسمح بممارسة نشاط أو مهمة بشكل فعال في وضعية بيداغوجية محددة وتساعد على اكتساب الكفاءة. وتُعرف "الكفاءة الختامية" بأنها الكفاءة النهائية التي يُتوقع من المتعلم تحقيقها.

الجذور والأسس النظرية للمقاربة بالكفاءات

المقاربة بالكفاءات ليست مجرد مصطلح بيداغوجي، بل هي فلسفة تربوية متكاملة تستمد قوتها من مزيج من النظريات النفسية والاجتماعية، مما يجعلها أكثر شمولية وتكيفًا من سابقاتها. تعود الأصول النظرية لبيداغوجيا الكفاءات إلى المذهب النفعي الذي يتزعمه المربي الأمريكي "جون ديوي"، والذي يرى أن قيمة المعرفة تتحدد بمقدار ما تحققه من فائدة ونفع عملي. هذا الأساس النظري المتعدد الأوجه، على عكس المقاربة القائمة على الأهداف التي انتقدت لتركيزها السلوكي الضيق وتجزئة المعرفة ، يتيح للمقاربة بالكفاءات دمج وجهات نظر مختلفة حول كيفية حدوث التعلم وكيفية تطبيق المعرفة.

تستند المقاربة بالكفاءات إلى عدة نظريات في علم النفس التربوي، منها:

  • النظرية السلوكية: تركز على أن التعلم يحدث نتيجة سلسلة من المثيرات والاستجابات، وتهتم بالسلوك الناتج عن التعلم. وتؤكد على صياغة أهداف تعليمية دقيقة تصف سلوكات قابلة للملاحظة، وتقسيم المحتوى الدراسي إلى وحدات تعليمية صغيرة.

  • النظرية المعرفية: تهتم بالعمليات الذهنية التي تتدخل في تنظيم التعلم وتحصيله، وتعتبر أن التمشيات العقلية للمتعلم هي التي تتدخل في تحصيل المعرفة. تسعى إلى نمذجة العمليات الذهنية لفهم كيفية استقبال المعلومات ومعالجة الرموز وحفظها واسترجاعها. الانتقال من التركيز على "المثير والاستجابة" إلى "العمليات الذهنية" هو تأثير مباشر لهذه النظرية.

  • النظرية البنائية: من روادها جان بياجيه، وتؤكد على أن المعرفة تنتج من أعمال حقيقية يقوم المتعلم باستنتاجها، وتركز على الدور النشط للمتعلم في عملية تعلمه. كما تؤكد على التعلم ذي المعنى القائم على الفهم، وتفترض أن الفرد يبني المعرفة اعتمادًا على خبرته الخاصة. التركيز على "مشكلات الحياة الواقعية" و"المتعلم النشط" ينبع من هذه النظرية ومن المذهب النفعي.

  • البنائية الاجتماعية: من روادها فيجوتسكي، وتذهب إلى أن بناء المعرفة يحدث من خلال التفاعل الاجتماعي الذي يلعب دورًا فعالًا في تطور السيرورة الذهنية للمتعلم. تركز على مبدأ التفاعلية والمكون الاجتماعي، حيث الفكر والوعي هما حصيلة الأنشطة التي ينجزها المتعلم مع المحيطين به، وتؤكد على التعلم التعاوني. التركيز على "العمل التعاوني" يعكس هذا التوجه.

تُشير المقاربة بالكفاءات إلى "معرفة كيفية التصرف" (know-how to act) التي تُجنّد مجموعة من القدرات والمهارات والمعارف وتوظفها بفعالية في وضعيات مشكلة مختلفة. تعتمد المقاربة على مبادئ أساسية مثل: مبدأ الفهم (سرعة الفهم)، مبدأ البناء (ربط المكتسبات القبلية بالجديدة)، مبدأ التطبيق (ممارسة الكفاءات المكتسبة)، مبدأ الإدماج (التمييز بين مكونات الكفاءة الواحدة)، ومبدأ الترابط بين أنشطة التعليم والتعلم والتقويم.

إن هذا الأساس النظري المتعدد الأوجه للمقاربة بالكفاءات يشير إلى محاولة بناء إطار تربوي أكثر قوة وقابلية للتكيف، يعالج أوجه القصور في المقاربات السابقة التي كانت أكثر فردية. من خلال الاستفادة من نظريات متعددة، تهدف المقاربة بالكفاءات إلى تعزيز التطور الشامل للمتعلم، لا يقتصر على الجوانب المعرفية فحسب، بل يشمل أيضًا التطبيق العملي، وحل المشكلات، والتفاعل الاجتماعي. هذا الأساس النظري الواسع يوفر إمكانات أكبر للمرونة والتكيف في سياقات تعليمية متنوعة، حيث يمكنه استيعاب أنماط التعلم والاحتياجات المختلفة.

الكفاءة تتجاوز مجرد المعرفة النظرية والمهارة المنفصلة لتصبح قدرة على التجنيد الفعال للموارد في سياقات معقدة. فالكفاءة ليست مجرد تراكم لمعلومات معزولة أو إتقان لمهارات منفصلة، بل هي القدرة على الأداء وتطبيق ما تم تعلمه في مواقف جديدة وغير مألوفة. مفهوم "الكفاءات العرضية" يؤكد هذا التطبيق عبر التخصصات. هذا التعريف للكفاءة كعملية ديناميكية وتكاملية (تجنيد الموارد) هو استجابة مباشرة لعدم كفاية التعليم التقليدي في إعداد الطلاب لتعقيدات العالم الحقيقي. إذا كانت المعرفة ذات قيمة فقط عندما تكون "متوفرة في الوقت المناسب وقابلة للتوظيف" ، فيجب على النظام التعليمي تحويل تركيزه من

ماذا يتم تعلمه إلى كيف يتم تطبيقه ولماذا هو مهم. وهذا له آثار عميقة على تصميم المناهج، وأساليب التدريس، والتقويم، ويتطلب الابتعاد عن المحتوى المجزأ والتعلم القائم على الحفظ.

أهداف المقاربة بالكفاءات في المنظومة التربوية الجزائرية

الأهداف العامة للمقاربة بالكفاءات

تسعى المقاربة بالكفاءات إلى تحسين مستوى التدريس وإصلاح التعليم والرفع من قيمته، وجعله مواكبًا للتطورات الراهنة. تهدف إلى إعطاء دفع للمنظومة التربوية الجزائرية من خلال تصميم مناهج وأساليب تدريس حديثة تساهم في رفع المستوى وتكوين كوادر أكثر كفاءة في المستقبل. من الأهداف الجوهرية لهذه المقاربة إعداد خريجين أكفاء وظيفيًا (functionally literate graduates) قادرين على استخدام ونقل المهارات والمعارف المكتسبة في المدرسة إلى سياقات العالم الحقيقي. كما تسعى إلى تجاوز التراكم الكمي للمضامين المعرفية المختلفة عبر المواد التعليمية، والتركيز على الكيف بدلاً من الكم.

الأهداف الخاصة بالمتعلم

الأهداف المعلنة للمقاربة بالكفاءات في الجزائر تعكس طموحًا كبيرًا لتحويل جذري في فلسفة التعليم، من التركيز على المدخلات إلى التركيز على المخرجات، ومن التلقين إلى التمكين. هذه الأهداف تمثل تحولًا واضحًا عن النموذج التقليدي الذي ركز على "نقل المعرفة" و"اكتساب المحتوى". ينصب التركيز على

ما يمكن للطلاب فعله بدلاً من مجرد

ما يعرفونه. وهذا يعني تحولًا من نموذج المتلقي السلبي إلى متعلم نشط، قادر على حل المشكلات وذاتي التوجيه.

تتمثل الأهداف الخاصة بالمتعلم فيما يلي:

  • الانتقال بالمتعلم من إدراك المفاهيم المعرفية إلى توظيفها في الحياة العامة: تمكين المتعلم من تطبيق المعارف والمفاهيم التي يكتسبها في سياقات حياتية واقعية، بدلاً من مجرد حفظها أو فهمها نظريًا.

  • تكوين التلاميذ وإكسابهم الكفاءات الضرورية للتكيف مع المحيط: إعداد التلاميذ وتزويدهم بالكفاءات اللازمة للتكيف مع مختلف أبعاد المحيط الاجتماعي، الثقافي، السياسي، والاقتصادي. يهدف هذا إلى تفعيل دور المدرسة وتأثيرها الإيجابي في المجتمع، وتمكينها من مواجهة تحديات العصر.

  • فسح المجال أمام طاقات المتعلم وقدراته: إطلاق العنان لإمكانيات المتعلم الكامنة وتنميتها.

  • تدريب المتعلم على كفاءات التفكير والربط بين المعارف: تدريب المتعلم على مهارات التفكير النقدي والتحليلي، وكيفية ربط المعارف المختلفة لمساعدته على حل المشكلات التي تواجهه.

  • تجسيد الكفاءات المكتسبة في الواقع: أن يطبق المتعلم الكفاءات التي اكتسبها في مواقف حقيقية وعملية.

  • تمكين المتعلم من الوصول إلى نظرة شاملة للأمور المحيطة به: تطوير قدرة المتعلم على فهم الأمور من منظور واسع ومتكامل.

  • تعزيز استقلالية المتعلم ومسؤوليته عن تعلمه: المقاربة بالكفاءات تجعل المتعلم محور التعلم ومسؤولاً عنه، وتسمح له بالتعلم بوتيرته الخاصة، مما يعزز قدرته على توجيه مساره التعليمي.

  • تحقيق العدالة في التعليم: من خلال توفير الدعم والوقت الكافي للطلاب لإتقان الكفاءات، مما يفيد الطلاب ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة ويضمن إتقان الجميع للمعرفة والمهارات، بغض النظر عن خلفياتهم أو تجاربهم التعليمية السابقة.

هذه المجموعة الطموحة من الأهداف تشير إلى أن صانعي السياسات الجزائريين لم يسعوا فقط إلى تحسينات تدريجية، بل إلى تحول نموذجي جوهري في التعليم. الهدف هو تخريج أفراد "أكفاء وظيفيًا" ، مستعدين لتعقيدات القوى العاملة والمجتمع في القرن الحادي والعشرين، بدلاً من مجرد اجتياز الامتحانات. وهذا يتوافق مع الاتجاهات العالمية في التعليم التي تعطي الأولوية لمهارات الحياة والعمل على الحفظ. الافتراض الضمني هو أنه من خلال تغيير

تركيز التعليم، ستتحسن جودة رأس المال البشري بشكل طبيعي. ومع ذلك، فإن تحقيق هذه الأهداف الطموحة يتطلب تقييمًا واقعيًا للبنية التحتية التعليمية الحالية والسياق الثقافي في الجزائر.

تطبيق المقاربة بالكفاءات في التعليم الثانوي الجزائري: الواقع والآفاق

السياسات والمناهج الرسمية

تبنت الجزائر المقاربة بالكفاءات كإصلاح تربوي جديد منذ العام الدراسي 2003/2004. جاء هذا التبني بعد عقود من تطبيق المقاربة بالأهداف التي أظهرت نقائص وعجزًا عن تلبية حاجات المتعلمين ومواجهة تحديات العصر. كان الهدف من هذا الإصلاح هو تحديث التعليم وتطويره لمواجهة متطلبات العولمة المتزايدة.

صدرت المناهج الجديدة كمرجعيات بيداغوجية تهدف إلى ترجمة المقاربة بالكفاءات إلى واقع عملي. تحدد وزارة التربية الوطنية البرامج التعليمية لكل مستوى دراسي، وتحدد الطرائق والمواقيت بناءً على اقتراحات المجلس الوطني للبرامج. الوثائق المرافقة للمنهاج أقرت طرق تدريس حديثة مثل التدريس بطريقة المشروع (Project-Based Learning - PBL) والتعلم التعاوني. المنظومة التربوية الجزائرية تعتمد على المقاربة بالكفاءات، وتركز على تطوير كفاءات ومهارات المتعلمين من خلال منهجية تتمحور حول المتعلم وتعزز استقلاليته. تُشير المناهج إلى استخدام استراتيجيات مثل التعلم القائم على المشاريع، والتعلم النشط، وحل المشكلات لتنمية مهارات القرن الحادي والعشرين، بما في ذلك التواصل الفعال، والتعاون، والتفكير النقدي والإبداعي. تُعد الكفاءة أساسًا لهيكلة المحتويات التعليمية في المناهج الجديدة، مما يضمن تنظيم المعارف والمفاهيم الأساسية بشكل بنائي.

لإدراك الفروقات الجوهرية التي دفعت الجزائر لتبني المقاربة بالكفاءات، يمكن مقارنتها بالمقاربة بالأهداف التي سبقتها:

جدول 1: مقارنة بين المقاربة بالأهداف والمقاربة بالكفاءات

المعيارالمقاربة بالأهدافالمقاربة بالكفاءات
التركيز الرئيسي

تجزئة المحتوى والمعارف

إدماج المعارف والمهارات وتوظيفها

طبيعة المعرفة

تراكم المعارف النظرية المجزأة

توظيف المعرفة في وضعيات مشكلة وحياتية

دور المتعلم

متلقٍ سلبي للمعلومات

محور العملية التعليمية، نشط وفاعل ومسؤول عن تعلمه

دور المعلم

ناقل للمعرفة ومسيطر على النشاط

ميسر، مرشد، ومصمم لوضعيات التعلم

طبيعة الأهداف

أهداف إجرائية جزئية وقصيرة المدى

كفاءات ختامية، قاعدية، وعرضية، ذات طابع وظيفي

التقويم

كمي، يركز على النتائج وحفظ المحتوى

نوعي، يركز على الأداء وتطبيق الكفاءات في سياقات معقدة

التكيف مع الواقع

ضعف الربط بالواقع وعدم القدرة على حل المشكلات الحياتية

ربط المعارف بالحياة الواقعية وإعداد المتعلم لمواجهة التحديات

التحديات والمعوقات

على الرغم من الأهداف الطموحة والإطار النظري المتين للمقاربة بالكفاءات، يواجه تطبيقها في التعليم الثانوي الجزائري العديد من التحديات والمعوقات التي تؤثر على فعاليتها.

الصعوبات المتعلقة بالمعلمين:

  • نقص التكوين المهني الكافي وغير الفعال: يفتقر العديد من المعلمين إلى الوعي الكافي بالمقاربة بالكفاءات، ويرجع ذلك أساسًا إلى التدريب غير الكافي أو غير الفعال. غالبًا ما يكون التكوين محصورًا على الندوات والملتقيات الجهوية والأيام التربوية، مع غياب مراكز ومرافق خاصة بالمعلم، مما يعيق مساره المهني.

  • عدم فهم المقاربة واستيعاب مفاهيمها الأساسية: يجد المعلمون صعوبة في فهم المقاربة بالكفاءات في حد ذاتها وعدم استيعاب المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها، مما يؤثر على قدرتهم على تطبيقها بفعالية.

  • استمرار الاعتماد على الطرق التقليدية: على الرغم من تبني المقاربة بالكفاءات، لا يزال المعلمون يميلون إلى استخدام الأساليب التقليدية القائمة على التلقين ونقل المعرفة، بدلاً من المنهجيات المتمحورة حول المتعلم والتعلم النشط.

  • مقاومة التغيير: يمثل عدم تقبل المعلمين والمتعلمين للتغيير أو عدم حماسهم له تحديًا كبيرًا أمام تطبيق المقاربة.

  • عدم قدرة المعلمين على تحقيق التكامل بين التعليم النظري والتطبيقي: يواجه المعلمون صعوبة في دمج المعارف والاتجاهات في حل المشكلات، مما يحد من قدرة الطلاب على تطبيق ما تعلموه في سياقات واقعية.

التحديات المرتبطة بالبيئة التعليمية:

  • اكتظاظ الأقسام: يؤدي حجم الفصول الدراسية الكبير إلى إعاقة تطبيق المقاربة بالكفاءات التي تتطلب عملًا جماعيًا وتفاعلاً فرديًا بين الطلاب والمعلم.

  • ثقل المناهج الدراسية: المناهج كثيفة المحتوى، مما يحد من الوقت المتاح للأنشطة التطبيقية والتعلم المتعمق، ويجعل المعلمين يركزون على إنهاء المقرر بدلاً من تنمية الكفاءات.

  • نقص الموارد والإمكانيات المادية: تفتقر المؤسسات التربوية إلى الوسائل اللازمة لتنشيط وضعيات التعلم وفق المناهج الجديدة، مثل المختبرات والمكتبات والموارد التعليمية الكافية.

  • عدم مراعاة خصوصيات وميول المتعلمين: تُفرض الكفاءات في بعض الأحيان ولا تُختار بناءً على احتياجات الطلاب، مما يؤدي إلى نقص التمركز حول المتعلم ويقلل من دافعيتهم للتعلم.

  • غياب الدعم الكافي من العائلة: تُشير بعض الدراسات إلى أن متابعة العائلة الجادة لأطفالها تزيد من إنجاح المقاربة، وبالتالي فإن نقص هذا الدعم يمثل تحديًا.

مشاكل التقويم والامتحانات الرسمية (البكالوريا):

  • عدم ملاءمة التقويم للمقاربة بالكفاءات: لا يزال التقويم الرسمي، مثل امتحان البكالوريا، يركز على المحتوى النظري وتجزئة المعرفة، ولا يقيس بشكل فعال الكفاءات والمهارات العليا مثل التفكير النقدي وحل المشكلات.

  • قلة المؤشرات في الامتحانات الرسمية: لا تغطي الأسئلة في الامتحانات الرسمية جميع الكفاءات المستهدفة، مما يجعل الامتحان عاجزًا عن بلوغ كل الأهداف الإجرائية وتحديد مستوى الكفاءة الحقيقي للمتعلم.

  • التركيز على المستويات العقلية الدنيا: تركز الاختبارات بشكل عام على المستويات العقلية الدنيا (مثل الحفظ والاسترجاع) بدلاً من المستويات العليا (مثل التحليل والتركيب والتقييم).

  • الامتحان الموجه بالمحتوى (Content-based baccalaureate exam): يؤثر هذا النوع من الامتحانات سلبًا على تطبيق المقاربة بالكفاءات، حيث يركز المعلمون والطلاب على حفظ المحتوى لاجتياز الامتحان بدلاً من تطوير الكفاءات المطلوبة.

إن تنظيم هذه التحديات المتنوعة في فئات منطقية (تتعلق بالمعلم، بالبيئة التعليمية، وبالتقويم) يوفر فهمًا أوضح وأكثر تنظيمًا للمشكلات النظامية. هذا يسمح بتحليل أعمق للترابط بين هذه المشكلات؛ على سبيل المثال، كيف أن ضعف التدريب يؤدي إلى الاعتماد على الأساليب التقليدية، وهو ما يتفاقم بسبب الفصول الدراسية المكتظة والامتحانات التي تركز على المحتوى. يوضح هذا التنظيم أن الفشل في التطبيق الفعال ليس بسبب عامل واحد، بل هو نتيجة لتفاعل معقد بين عناصر مختلفة.

جدول 2: التحديات الرئيسية لتطبيق المقاربة بالكفاءات في التعليم الثانوي الجزائري

فئة التحديالتحديات المحددةالآثار المحتملة
المعلمون

نقص التكوين المهني الكافي وغير الفعال

ضعف فهم المقاربة وتطبيقها

عدم فهم المقاربة واستيعاب مفاهيمها الأساسية

استمرار الفجوة بين النظرية والتطبيق

استمرار الاعتماد على الطرق التقليدية

تقييد تطوير مهارات المتعلم العليا

مقاومة التغيير

بطء وتيرة الإصلاح التربوي

عدم القدرة على تحقيق التكامل بين التعليم النظري والتطبيقي

عدم قدرة الطلاب على تطبيق المعارف في الحياة الواقعية
البيئة التعليمية

اكتظاظ الأقسام

صعوبة تطبيق الأنشطة التفاعلية والتعلم التعاوني

ثقل المناهج الدراسية

التركيز على الكم على حساب الكيف وتنمية الكفاءات

نقص الموارد والإمكانيات المادية

إعاقة تنفيذ الأنشطة التطبيقية والابتكارية

عدم مراعاة خصوصيات وميول المتعلمين

نقص التمركز حول المتعلم وتراجع دافعيته

ضعف الدعم من العائلة

تراجع فعالية المقاربة خارج البيئة المدرسية
التقويم

عدم ملاءمة التقويم للمقاربة بالكفاءات (البكالوريا)

عدم قياس الكفاءات الحقيقية وتوجيه التعلم نحو الحفظ

قلة المؤشرات في الامتحانات الرسمية

عجز الامتحان عن بلوغ الأهداف الإجرائية للكفاءات

التركيز على المستويات العقلية الدنيا

إهمال تنمية التفكير النقدي وحل المشكلات

الفرص والإمكانيات لتحسين جودة التعليم

على الرغم من التحديات القائمة، توفر المقاربة بالكفاءات فرصًا وإمكانيات كبيرة لتحسين جودة التعليم الثانوي في الجزائر، إذا تم تطبيقها بفعالية.

  • دور المقاربة في إعداد متعلمين أكفاء وظيفياً:

    • تهدف المقاربة بالكفاءات إلى إعداد خريجين أكفاء وظيفيًا (functionally literate graduates) قادرين على استخدام ونقل المهارات والمعارف المكتسبة في المدرسة إلى سياقات العالم الحقيقي. تُمكن المتعلم من استخدام كل المعارف المكتسبة في حياته المعاشة، وتساعده على إقامة روابط بين الأفكار واستغلالها في البحث عن حلول مختلفة للوضعيات المشكلة التي قد تواجهه. تُعد المقاربة بالكفاءات مدخلاً تربويًا وبيداغوجيًا جديدًا، يهدف إلى توظيف الإمكانات الذهنية للمتعلمين ضمن استراتيجية ديداكتيكية متأسسة على الوضعيات المشكل، لتأهيلهم لمواجهة كل العقبات والحواجز التي قد تصادفهم في حياتهم اليومية. تُسهم هذه المقاربة في إعداد مواطنين صالحين يستطيعون توظيف مكتسباتهم من المعارف والمهارات والقيم المتنوعة، في مختلف مواقف الحياة بكفاءة ومرونة. كما أنها تحسّن من جودة التعليم وتلبي متطلبات سوق العمل المتغيرة.

  • تعزيز مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات:

    • تُدرّب المقاربة بالكفاءات المتعلم على كفاءات التفكير والربط بين المعارف لمساعدته على حل المشكلات. تُعَد المقاربة بالكفاءات نهجًا مناسبًا يُعلّم كيفية التعلم، وكيفية حل المشكلات، وكيفية تطبيق المعرفة، وكيفية سد الفجوة بين النظرية والتطبيق. تُشجع المقاربة على التعلم من خلال حل المشكلات (Problem-Solving approach) الذي يضع الطلاب في مواقف تختبر قدراتهم على حل الصعوبات والعقبات، مما يدفعهم إلى التفكير وتنمية مهاراتهم العملية.

  • تنمية التعلم الذاتي والمسؤولية:

    • تضع المقاربة بالكفاءات المتعلم في مركز عملية التعلم، مما يعزز استقلاليته ويجعله مسؤولاً عن تقدمه التعليمي. يستطيع المتعلم أن يتقدم بوتيرته الخاصة، مما يتناسب مع أنماط التعلم المختلفة ويشجع على التعلم المستمر.

  • تحسين جودة المخرجات التعليمية:

    • أظهرت نتائج تطبيق المقاربة بالكفاءات في بعض الدول الأفريقية تحسنًا ملحوظًا في إتقان المحتويات المدرسية، وزيادة في العدالة والفعالية التعليمية. ففي مدغشقر، أدت المقاربة إلى تحسن كبير في العدالة والفعالية. وفي رواندا وجزر القمر، زاد معدل الحضور بشكل ملحوظ، وفي المغرب، جذبت هذه المقاربة الطلاب من المدارس الخاصة. كما أكدت دراسات أخرى أن المقاربة بالكفاءات تفوقت على النهج التعليمي القديم في اكتساب المعرفة ومهارات حل المشكلات.

    • تُشجع المقاربة على تنمية المهارات العرضية (interdisciplinary skills) مثل التحليل، وحل المشكلات، والتفكير النقدي، وهي مهارات أساسية للنجاح في الحياة والعمل. كما تعزز العمل التعاوني بين الطلاب.

    • تُعد المقاربة بالكفاءات شاملة، مما يسمح باستخدام أساليب تدريس تتمحور حول المعلم والمتعلم على حد سواء. وتُسهم في غرس المهارات المعرفية والاجتماعية في البرامج التعليمية. كما تُشجع على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICTs) في الفصول الدراسية، مثل البحث عن المعلومات عبر الإنترنت وتقديم المشاريع.

توصيات لتعزيز وتفعيل المقاربة بالكفاءات في التعليم الثانوي الجزائري

لتحقيق الأهداف المرجوة من المقاربة بالكفاءات والتغلب على التحديات القائمة، يمكن تقديم التوصيات التالية:

  • تكوين المعلمين وتأهيلهم المستمر:

    • ضرورة تعزيز برامج التكوين المستمر للمعلمين وتطويرها لتكون أكثر فعالية وعملية، مع التركيز على التحديات الواقعية التي يواجهونها في الفصول الدراسية. يجب أن تضمن هذه البرامج فهمًا عميقًا لمبادئ المقاربة بالكفاءات ومفاهيمها الأساسية.

    • إعادة النظر في برامج التكوين في المدارس العليا للأساتذة والجامعات لضمان إعداد المعلمين إعدادًا علميًا ومهنيًا بمستوى عالٍ من الكفاءات.

    • دعم إنجازات المعلمين وتحفيزهم على الإبداع وتبني الأساليب البيداغوجية الحديثة.

  • مراجعة المناهج والبرامج الدراسية:

    • تقليص ثقل المناهج الدراسية ليتناسب مع الوقت المتاح، مما يسمح بتعميق التعلم وتطبيق الكفاءات بدلاً من التركيز على التلقين.

    • تحديد الكفاءات المستهدفة بشكل أكثر دقة ووضوح في المناهج والكتب المدرسية.

    • دمج أنشطة التعلم القائم على المشاريع وحل المشكلات بشكل فعال في الإطار المنهجي.

  • تطوير أساليب التقويم:

    • إعادة النظر في أساليب التقويم، بما في ذلك امتحان البكالوريا، ليتوافق مع مبادئ المقاربة بالكفاءات، ويركز على قياس الكفاءات والأداء بدلاً من مجرد المحتوى النظري.

    • استخدام طرق تقويم متنوعة تقيس المستويات العقلية العليا، مثل التحليل والتركيب والتقييم، بالإضافة إلى المعرفة النظرية.

    • توفير مؤشرات تقويمية واضحة وشاملة تغطي جميع الكفاءات.

  • توفير البيئة التعليمية الداعمة:

    • ضرورة تقليص عدد التلاميذ في الأقسام لتسهيل تطبيق الأنشطة التفاعلية والتعلم التعاوني.

    • توفير الموارد والإمكانيات المادية اللازمة، مثل المختبرات والمكتبات والتقنيات التعليمية الحديثة، لدعم تنفيذ المناهج القائمة على الكفاءات.

    • العناية بتكييف خطط التعليم وجعلها موافقة لعملية التعلم، وتدبير الوضعيات التعليمية التعلمية وحسن تسييرها.

  • تعزيز الشراكة بين المدرسة والأسرة والمجتمع:

    • إشراك العائلة والمجتمع في فهم المقاربة بالكفاءات ودعم تطبيقها، لضمان استمرارية التعلم وتوظيف الكفاءات خارج البيئة المدرسية.

  • دعم البحث التربوي:

    • تشجيع الدراسات والبحوث التقييمية المستمرة لواقع تطبيق المقاربة بالكفاءات في التعليم الثانوي الجزائري، لتحديد نقاط القوة والضعف وتقديم حلول مبنية على الأدلة.

الخلاصة والتوصيات

لقد تبنت المنظومة التربوية الجزائرية المقاربة بالكفاءات كخيار استراتيجي لإصلاح التعليم، بهدف تجاوز قصور المقاربة بالأهداف وإعداد جيل من المتعلمين القادرين على توظيف المعارف والمهارات في سياقات حياتية ومهنية معقدة. تستند هذه المقاربة إلى أسس نظرية متعددة، تجمع بين المذهب النفعي والنظريات السلوكية والمعرفية والبنائية والاجتماعية، مما يمنحها شمولية وقدرة على التكيف. وتتمثل أهدافها الرئيسية في تمكين المتعلم من التفكير النقدي، وحل المشكلات، وتعزيز استقلاليته، وتحقيق العدالة التعليمية، وإعداده كمواطن فاعل في مجتمع دائم التغير.

على الرغم من هذه الأهداف النبيلة والإمكانيات الواعدة التي توفرها المقاربة بالكفاءات في تحسين جودة التعليم ومخرجاته، فإن تطبيقها في التعليم الثانوي الجزائري يواجه تحديات كبيرة. تتمحور هذه التحديات حول نقص التكوين الفعال للمعلمين وعدم استيعابهم الكامل للمقاربة، واستمرار الاعتماد على الطرق التقليدية، بالإضافة إلى قيود البيئة التعليمية مثل اكتظاظ الأقسام وثقل المناهج ونقص الموارد. كما أن عدم ملاءمة أنظمة التقويم، خاصة امتحان البكالوريا، لقياس الكفاءات الحقيقية، يمثل عائقًا رئيسيًا يحول دون تحقيق الأهداف المرجوة.

لتعزيز وتفعيل المقاربة بالكفاءات في التعليم الثانوي الجزائري، يوصى بما يلي:

التعليقات (0)

شارك

شارك هذا المنشور مع الآخرين